التعريف بعنوان البحث :
ولا أريد الخوض هنا في التفاصيل اللغوية
للكلمات الأربع التي يتكون منها العنوان ، وإنما أعرف به بصورة مجملة نظراً لكون
تلك الكلمات الأربع من الواضحات ، وتوفيراً للوقت المناسب لدراسة الموضوع .
فالمقصود بعنوان البحث ، هو : بيان العقود
والمنتجات المالية المناسبة لإعمار الأوقاف بحيث تتوافر فيها الشروط المطلوبة
شرعاً ، والضوابط التي تحقق الغرض المنشود من التعمير .
فهذه العقود والأدوات تشمل ما هو قديم استعملها
فقهاؤنا العظام ، وما هو جديد معاصر ـ كما سيأتي ـ مثل نظام (B.O.T) والصكوك ونحوهما .
ولكن نقصد بالاعمار هنا : ما هو أعمّ من الاعمار
العرفي الخاص بإعادة الاعمار فعلاً للعين الموقوفة ، بحيث يشمل هذا النوع وكل ما
يمكن أن يحافظ على العين الموقوفة من خلال الترميم والصيانة ، والاضافة ، والتحسين
والتطوير .
حكم
إعمار الوقف :
يختلف حكم إعمار عين الوقف حسب نوعية الاعمار ،
ومدى حاجة العين الموقوفة إلى التعمير ، لذلك نستطيع القول بأن الأحكام الخمسة
التكليفية ترد عليه :
أولاً
ـ الوجوب :
يجب
على ناظر الوقف ، أو متوليه تعمير العين الموقوفة إذا توافرت الشروط الآتية :
1. إذا كانت العين الموقوفة لا يمكن الاستفادة
منها إلاّ بالتعمير ، سواء كان ذلك بسبب الهدم ، أو الخوف منه ، او نحو ذلك ،
وبعبارة أخرى : ( أن تقف العين الموقوفة عن الإنتاج بسبب الهدم أو الخوف منه ) .
2. أن تكون هناك إمكانية للتعمير وذلك بأن يكون
هناك وفر كافٍ من السيولة للتعمير ، أو من خلال التمويل المتاح .
ويدل
على وجوب التعمير عند توافر هذين الشرطين ما يأتي:
أ ـ أن
حقيقة الوقف هي : حبس الأصل وتسبيل المنفعة ، فهذه الحقيقة لا تتحقق إذا كانت
العين الموقوفة معطلة .
ب ـ
أن مقاصد الشريعة من الوقف هي الحفاظ على العين الموقوفة نفسها مع الانتفاع بها من
خلال الاستعمال ، أو الاستغلال ، وتحقيق التنمية ، والخدمات للمجتمع ، وكل ذلك لا
يتحقق مع كون العين الموقوفة معطلة لأي سبب كان ، وحينئذ يكون التعمير واجباً ،
لأن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب .
ثانياً
ـ الاستحباب في الحالات التي لا تتوافر فيها شروط الوجوب ، ولكن التعمير يؤدي إلى
زيادة الدخل ، أو تقوية العين الموقوفة ، أو نحو ذلك .
ثالثاً
ـ الاباحة إذا كان التعمير غير ضروري ، وأنه يستوي مع عدمه في الآثار .
رابعاً
ـ الكراهة إذا كان التعمير للزينة فقط دون وجود حاجة العين الموقوفة إليه ، ولم
يترتب عليه إضرار بأموال الوقف ، وذلك لأن صرف أموال الوقف دون الحاجة نوع من
السرف وهو في حالة عدم الاضرار مكروه .
خامساً
ـ الحرمة إذا كان التعمير يؤدي إلى هدم المبنى دون أي فائدة تذكر ، أو كان الصرف
عليه بإسراف وتبذير وإضاعة للمال ، ففي هذه الحالة يكون التعمير حراماً ، لأنه
يؤدي إلى إضاعة المال وصرف مال الوقف في غير أوجهه الشرعية ، وحرمان أصحابه
المستحقين منه .
الأسس
الشرعية في حساب نفقات الإعمار من الريع :
لا
شك أن هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التفصيل ، وهو :
(1)
أن الواقف إذا كان قد خصص جزءاً من الريع للإعمار ـ وهو يكفي ـ فإن الإعمار يكون
منه حسب شرط الواقف ، وتحقيق المصلحة أيضاً .
وأما
إذا كان ما خصصه الواقف لا يكفي فهنا ننظر إلى مدى ضرورة الإعمار فإن كان ضرورياً
فيتم تحصيل الباقي من أي جهة ممكنة حسب التفصيل المذكور للحالات التي سنفصلها في
الفقرة اللاحقة .
(2)
أما إذا كان الواقف لم يخصص ذلك فنكون أمام الحالات الآتية :
أ ـ أن
يكون الواقف قد أطلق كيفية الصرف ، وحينئذ فالأولى للناظر أن يقسم الريع على ثلاثة
أقسام : قسم يصرف على الجهة الموقوف عليها ، وقسم يخصص للصيانة والتعمير ، وقسم
يعاد للاستثمار ، أو التطوير.
ففي
هذه الحالة عندما توجد ضرورة أو حاجة للإعمار فإن مصاريفه تنفق من الثلثين
الأخيرين .
ب ـ
أن يكون الواقف عين الريع كله للصرف وفي هذه الحالة هناك من الفقهاء من يرى أن هذا
الشرط لا ينفذ ، بل يُحسم من الريع ما يحتاج إليه الموقوف للصيانة ، والتعمير
الضروري ، ففي هذه الحالة وحالات عدم توافر الريع الكافي للإعمار فإن الإعمار إن
كان ضرورياً ، أو محتاجاً إليه فإن على الناظر أن يسعى جاهداً لتوفير المال اللازم
له عن طريق القرض الحسن إن أمكن ذلك ، وإلاّ فعن طريق التمويل بأي وسيلة مشروعة ـ كما سيأتي ـ .
وإن لم يستطع الحصول على التمويل مع بذل كل المجهود
فإنه بإمكانه بيع جزء من الوقف لإعمار الجزء الآخر حتى لا يتضرر الكل تنفيذاً
للقاعدة الأساسية القاضية بتحمل الضرر الأدنى لدرء الضرر الأكبر ، والتضحية بمصلحة
جزئية أو صغيرة لتحقيق مصلحة كلية ، أو كبرى
.
تكوين
مخصصات للإعمار والإهلاك
:
إن
حقيقة الوقف نفسه هي : تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وان مقاصد الشريعة فيه هي
الاستمرار والدوام ، وذلك يقتضي الحفاظ على الأصل الموقوف بكل الوسائل المتاحة ،
وقد دلت على وجوب الحفاظ عليها بقدر الامكان وبما يحقق المصالح نصوص شرعية كثيرة ،
كما تقتضيه الأمانة وعدم التفريط في حقوق
الآخرين ، وهو واجب أساسي على الدولة الإسلامية بأن تضع الأنظمة والأجهزة لحماية
أوقاف المسلمين ، والحفاظ عليها ، وهو واجب كذلك على ناظر الوقف ومتوليه ، بل على
المسلمين جميعاً كلٌّ حسب إمكانه وصلاحياته .
وقد نصّ الفقهاء على إعطاء الأولوية من ريع
الوقف لإصلاحه وتعميره وترميمه وصيانته بما يحافظ على قدرته على الانتفاع به ، حيث
يوجه الريع الناتج من الوقف إلى إصلاحه أولاً ثم إلى المستحقين ، حتى أن الفقهاء
قد نصوا على أنه إذا شرط الواقف أن يصرف الريع إلى المستحقين دون النظر إلى
التعمير فإن هذا الشرط باطل ، قال المرغيناني : ( والواجب أن يبتدأ من ارتياع
الوقف بعمارته ، شرط ذلك الواقف ، أو لم يشترط ، لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبداً
، ولا تبقى دائمة إلاّ بالعمارة فيثبت شرط العمارة اقتضاءً ) ، وقال ابن الهمام :
( ولهذا ذكر محمد ـ رحمه الله ـ في الأصل في شيء من رسم الصكوك فاشترط أن يرفع
الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر ، والخراج ، والبذر ، وأرزاق
الولاة عليها ، والعمالة ، وأجور الحراس والحصادين والدراسين ، لأن حصول منفعتها
في كل وقت لا يتحقق إلاّ بدفع هذه المؤن من رأس الغلة ، قال شمس الأئمة: (وذلك وإن
كان يستحق بلا شرط عندنا لكن لا يؤمن جهل بعض القضاة فيذهب رأيه إلى قسمة جميع
الغلة،فإذا شرط ذلك في صكه يقع الأمن بالشرط ) ثم قال:(ولا تؤخر العمارة إذا احتيج
إليها ).
فالواجب هو إبقاء الوقف على حالته السليمة التي
تستطيع أن تؤدي دورها المنشود وغرضه الذي أوقفه الواقف لأجله ، وذلك بصيانته
وعمارته والحفاظ عليه بكل الوسائل المتاحة ، بل ينبغي لإدارة الوقف ( أو الناظر )
أن تحتفظ دائماً بجزء من الريع للصيانة الدائمة والحفاظ على أموال الوقف .
وبناء على هذا الواجب وتحقيقه فإن على الناظر ،
أو المتولى ، أو إدارة الوقف تكوين مخصصات للإعمار والاستهلاك ـ بالنسبة للعقارات
المبنية ـ من الريع والدخل المتحقق سنوياً ، وأن يستثمر كذلك استثماراً في مؤسسات
مالية إسلامية متخصصة ( مأمونة ) .
ومما لا شك فيه أن قيام الناظر ( إدارة الوقف )
بتخصيص نسبة من الريع للاهلاك أمر مشروع ، بل مطلوب ، لأنه يؤدي إلى استمرار الوقف
، والقيام بالاعمار المطلوب بعدما ينتهي العمر الافتراضي للمبنى ، أو المصنع حيث
يستطيع الناظر القيام بالاعمار ، أو بشراء أصل جديد يحل محل القديم بالأموال التي
تجمعت خلال سنوات الاهلاك .
ومن المعلوم أن هذا العمل
داخل فيما ذكره الفقهاء في توزيع الريع وصرفه للاعمار ، وللاستمرارية .
نفقات صيانة إعمار الوقف :
فإذا كان الواقف قد خصص لصيانة الموقوف شيئاً من
الدخل أو غيره فبها ونعمت ، وإلاّ فتصرف من إيرادات الوقف أولاً ـ كما سبق ـ ، بل
إذا لم يكن الايراد للصيانة والاصلاح ولم يستطع الناظر توفير تمويل له ببيع جزء
منه لهذا الغرض ، قال ابن عرفة : ( والحاصل أن نفقة الحبس من فائده ، فإن عجز بيع
وعوض من ثمنه ما هو من نوعه ، فإن عجز صرف ثمنه في مصرفه ) ، وقال الوزاني : (
..وعليه ، فإن اقتضى نظره بيع جزء منها للاصلاح فلا اشكال )
.
([1]) يراجع بحثنا حول : تنمية موارد الوقف ، بحث منشور
في مجلة ( أوقاف ) الكويتية العدد4 شوال 1425هـ ص 19 وما بعدها ومصادره المعتمدة
في المذاهب الفقهية ،ـ ويراجع : د. عبدالرحيم العلمي : الاجتهادات الفقهية في
نوازل الوقف عند المالكية ، بحث منشور في مجلة ( أوقاف ) الكيويتة العدد12 السنة7
جمادى الأولى 1428هـ ص 47
([2])
جرت العادة في عصرنا الحاضر وحسب الأنظمة المحاسبية أن تحسب الموجودات الثابتة من
العقارات ـ غير الأراضي ـ والمصانع والسيارات بقيمتها محسوماً منها نسبة للإهلاك (
أو الاستهلاك ) وتخصيص هذه ضمن مخصص الاهلاك ، وهذه النسب تختلف من المنقولات إلى
المباني ، فمخصص العقارات في بعض القوانين 10% في حين أن مخصص الاهلاك للسيارات
وأجهزة الكومبيوتر 25% وهكذا ، كما أن القوانين فيها مختلفة .
([3]) الهداية مع فتح القدير ( 6/221 ـ 222 )
([4]) النوازل الصغري لمحمد المهدي الوزاني (4/171)