الوقف
ومؤسسات المجتمع الأهلي :
ظهر
مصطلح " مؤسسات المجتمع المدني " أو " الأهلي " في العقود
الأخيرة للدلالة على المؤسسات الأهلية غير الحكومية ، ودورها في خدمة المجتمع في
مختلف مجالات الحياة ، وفي خدمة الإنسان من حيث حقوقه ، وحماية كرامته .
ونستطيع
القول : بأن مؤسسات المجتمع الأهلي تسعى جاهدة ـ خارج إطار الدولة ومؤسساتها ـ
لتحقيق المقاصد الضرورية والحاجية للإنسان والمجتمع من خلال حماية الإنسان ،
وحريته الدينية ، وحماية النفس والعرض ، والمال ، وغيرها من المقاصد المعتبرة
بالإضافة إلى تحقيق العدل ، وحماية ممتلكات الشعب من خلال المؤسسات الرقابية
والإعلامية .
يقول
المستشار إبراهيم البيومي غانم : " وإذا قبلنا بأن المجتمع المدني ـ في أحد
تعريفاته العامة والشائعة يشير إلى " كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن
من الخبرات والمنافع العامة من دون توسط الحكومة " وباستقلال عن الجهاز
القهري للدولة ، وأن موضوعه ينصب على " المجال المعرفي الذي يتناول المؤسسات
، والممارسات التي تقع بين مجالي الأسرة والدولة " ، فإن إدراك علاقة الوقف
بالمجتمع المدني في الوطن العربي على وجه التحديد يتطلب بالضرورة تجاوز المعاني
اللغوية والمشاحات الاصطلاحية المجردة ، والنفاذ مباشرة إلى التجليات العملية
والممارسات الاجتماعية لكليهما في أرض الواقع .. " ثم ختم ورقته بأن "
ثمة علاقة أكيدة نشأت بين نظام الوقف والمجتمع المدني / الأهلي العربي بغض النظر
عن النمط الذي أخذته هذه العلاقة "
.
وقبل
أن أبين هذه العلاقة أود أن أؤكد على أن المجتمع القوي المتحضر هو الذي تقوم
الدولة فيه بواجباتها العسكرية ، والسياسية والاقتصادية ، والاجتماعية من خلال
منظوماتها ومؤسساتها ومواردها المالية الخاصة بها ...
وبالتوازي
لأعمال الدولة ينهض المجتمع أيضاً بواجباته الأهلية من خلال مجموعة من المؤسسات
المتنوعة التي لها أيضاً منظومتها ومواردها الخاصة بها .
فحينما
يلتقي هذان الخطّان ، ويتحركان عبر خطة محكمة ، ومنهج صحيح كل في دائرته ومن خلال
منظوماته الخاصة بها يتكامل المجتمع ، فيتقدم تقدماً سريعاً في كافة مجالات الحياة
، ويتكون التكافل الاجتماعي ، والتماسك الداخلي ، والأمن السياسي والأمان
الاقتصادي ، وتتحقق الحضارة والرفاهية ، كما نشاهد ذلك ـ على المستوى المادي ـ في
الدول المتقدمة .
وقد
رأينا من خلال النصوص السابقة التي ذكرناها حرص الإسلام على الوقف والصدقات العامة
، والقرض الحسن حتى وصلنا إلى فكرة الواجب الكفائي في مجال التكافل الاحتماعي ـ
كما سبق ـ
ومما
لا شك فيه أن الوقف الذي حرض عليه الإسلام وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم ومعظم
صحابته ـ إن لم يكن جميعهم ـ يدخل في هذا الإطار الكفائي التكافلي .
ثم
إن الوقف تنوعت أشكاله ، وتعددت مصادره ، وموارده ، ومصارفه ، وشملت مؤسساته مختلف
مجالات الحياة ، نذكر هنا أهمها :
1
ـ أوقاف ضخمة على المساجد والجوامع وعلى رأسها الوقف على المساجد الثلاثة ، المسجد
الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمسجد الأقصى .
2
ـ أوقاف عظيمة على المدارس والجامعات ، بدءاً من المحاضر ، والكتاتيب ، والمدارس
الملحقة بالمساجد ، ومراكز تحفيظ القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، إلى الجامعات
والمدارس النظامية ، وبشكل متكامل حتى نستطيع القول بأن الوقف هو الذي تحمل أعباء
التعليم في الأمة .
3
ـ أوقاف عظيمة على الأماكن الخاصة بالتربية ، والتزكية كالتكايا ، والخانقاه
ونحوها ، حيث ساهمت هذه الأوقاف في تمويل هذه المؤسسات باستمرار .
4
ـ أوقاف عظيمة على الجهاد في سبيل الله ، وحماية الثغور ، ونحو ذلك ، حيث ساهمت
هذه الأوقاف في تحمل أعباء كثيرة للدفاع عن الأمة ودينها .
5
ـ أوقاف عظيمة على البيمارستانات ( المستشفيات ) بأنواعها الكثيرة وبشكل تكفي
أموال الوقف لإدارة هذه المستشفيات على صورة مؤسسية وعلى الرفاهية .
ولذلك
نستطيع القول بأن الوقف وحده هو الذي تحمل أعباء الصحة والمستشفيات في الأمة الإسلامية
خلال عصورها الزاهية .
6
ـ أوقاف خاصة بالفقراء والمساكين .
7
ـ أوقاف خاصة بالذين انقطع بهم السبيل وهم محتاجون إلى مساعدات لتوصيلهم إلى
بلادهم وأوطانهم .
8
ـ أوقاف خاصة بالخانات ، أي أماكن الاستراحات بين المدن ( أي الفنادق المجانية
للمسافرين ) لتطوير حركة السفر ، وحتى لا يكون عدم المال مانعاً من السفر ،
والرحلات العلمية ، أو التجارية.
9
ـ أوقاف خاصة بالعلماء من الدعاة والمدرسين ، ونحوهم .
10
ـ أوقاف خاصة بطلبة العلم ، لمعيشتهم وكفالتهم حتى يستكملوا العلوم المطلوبة .
11
ـ أوقاف خاصة بالثغور ( أي حماية الحدود الإسلامية ) .
12
ـ أوقاف خاصة بالقرآن الكريم من حيث كتابته ونسخه ، وتعليمه ، وحفظه ، ونشره .
13
ـ أوقاف خاصة بالسنة المشرفة من حيث حفظها وتعليمها ، ونسخها ونشرها بين المسلمين
، بل هناك أوقاف خاصة بصحيح البخاري ، أو صحيح مسلم .
14
ـ أوقاف خاصة بنشر الدعوة من حيث تخصيص ريع الوقف للدعاة ، والمدعوين والمسلمين
الجدد ، أو المهتدين الجدد ، ومن حيث الانفاق على الأدوات والوسائل الجديدة للدعوة
من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة ، والمقروءة والمكتوبة .
وفي
عصرنا الحاضر يمكن الوقف على الدعوة من حيث الأشرطة ، ووسائل التواصل الاجتماعي
المعاصرة من الانترنت وهكذا .
15
ـ أوقاف خاصة لتزويج غير القادرين من الرجال والنساء ، بحيث تضمن لهم مصاريف
الزواج ، بل والنفقة إلى أن يجدوا العمل المناسب .
16
ـ أوقاف خاصة بالنساء الأرامل ، وأوقاف خاصة للأرامل اللائي لديهن أولاد ، بل
وجدنا أوقافاً خاصة بالأرامل التي لديها بنات فقط .
17
ـ أوقاف خاصة باليتامى وكفالتهم .
18
ـ أوقاف خاصة بأداء الديون .
19
ـ أوقاف خاصة بالمكتبات ، والكتب للقراءة والبحث ، حتى اشتهرت الحضارة الإسلامية
بالمكتبات الضخمة منذ زمن قديم .
20
ـ أوقاف خاصة للجسور ، والطرق .
21
ـ أوقاف خاصة بمشاريع المياه من حفر الآبار ، وشق الترع ، ونحو ذلك .
22
ـ أوقاف خاصة بالمقابر ، حيث أوقفت أراضي كثيرة لتكون مقابر للمسلمين
23
ـ أوقاف خاصة لصالح العجزة وذوي الاحتياجات الخاصة ، بل وجدنا بعض الأوقاف الخاصة
بالأعمى فقط ، أو بالأصم ، وهكذا .
24
ـ أوقاف خاصة بالمسنين .
25
ـ أوقاف خاصة بالخدم والخادمات في حالات كسر الأواني ، أو الإضرار بأموال أسيادهم
.
26
ـ أوقاف خاصة بمن حبس عنه أجره ظلماً من قبل أصحاب العمل .
27
ـ أوقاف خاصة بالحيوانات أو الطيور عامة ، أو أنواع معينة مثل الخيل .
28
ـ أوقاف خاصة لأماكن الوضوء للنسوة خاصة .
29
ـ أوقاف خاصة لمن يدخل السرور في قلوب المرضى من الوعظاء والقصاصين .
30
ـ أوقاف خاصة بالحيوانات عند عجزها أي تخصيص الأموال لحالات الحيوانات التي تحال
على المعاش بسبب السن ، أو المرض وبعبارة أخرى الضمان لحالات العجز وكبر السن .
31
ـ أوقاف خاصة بالخيول بصورة عامة ، وبالخيول العاجزة عن العمل .
32
ـ أوقاف خاصة بنزهة العوائل ، كما فعل ذلك السلطان نور الدين زنكي ، حيث كان له
قصر ، فقام بتعميره وأضاف إليه أراض واسعة وربوة فجعلها منتزهاً خاصاً بالفقراء
وعوائلهم وسماها :" قصر الفقراء " حيث أنشد فيه تاج الدين الكندي شعراً
قال فيه :
إن
نورالدين لمــا أن رأى
من البساتين قصور الأغنياء
عمَّر
الربوة قصراً شــاهقاً
نزهـة مطلقــة للفقـراء
33
ـ أوقاف خاصة لشراء حلي العروس وإعارتها إياها عند عرسها .
وهذه
بعض أنواع الوقف السائدة في العصور الزاهرة لحضارتنا الإسلامية
، وقد أبدع الحاج أحمد بن شقرون في ذكر هذه الأنواع شعراً حيث قال :
اصغ
تدر ما أسدى أخ الذوق جدا
وفي حبس يستحسن السبق للخير
إذا
عطب اللقلاق يومـاً فإنــه بمال من الأوقاف يجبر من كسر
وإن
لم تجد أنثى مكاناً لعرسهـا
فدار من الأوقاف تنقذ من فقـر
وإن
لم تجد عقداً لجيد ، فإنــه
يعار من الأوقاف يوصل للخـدر
وإن
جن مجنون ، فإن علاجـه بمال
من الأوقاف يصرف للفـور
وقد
أوقفوا جبر الأواني ، ربمـا
يهشمها طفل ، فتقطع من أجــر
ولكن
بمال الوقف يأخذ غيرهـا بلا
عوض منه ، فيسلم من خسر
وقد
أوقفوا دار الوضـوء لنسوة
يردن صلاة في حياء وفي ستـر
وقد
أوقفوا وقفاً يخص مؤذنــاً يؤذن للمرضى بعيداً عن الفجـر
ليكشف
عنهم من كثافة غربــة حجاب
ظلام الليل والسقم والوتـر
مبرات
أوقات الألى قصدوا إلى معان
من الإحسان جلت عن الحصر
وأشار
الشاعر العراقي معروف الرصافي في قصيدة رائعة إلى أهمية الوقف وتنوعه فقال :
للمسلمين
على نــزوة وفرهم كنز
يفيض غنى من الأوقـاف
كنز
لو استشفوا به من دائـهم
لتدجروا منه الـدواء الشــافي
ولو
ابتغوا للنشء فيه ثقــافة
لتثقفوا منـه بخـير ثقـــات
ولو
ارتقوا بجناحه في عصرهم لأطـارهم بقـوادم وخــوافي
لكنهم
قــد أهملـوه وأعملـوا في
جانبيه عوامـل الإتـــلاف
فإذا
نظرت رأيت ثمــة أرضه تجري
الرياح بها ، وهن سـوافي
قد
تابعوا الموتى عليه وما وقوا
أهـل الحياة بـه من الإجـحاف
وقفوا
به عند الشروط لواقــف
وتغـافلوا عن حكمـة الإيقـاف
تركوا
له في العصر نفعاً ظاهراً
وتعاملــوا فيه بنفـع خــافي
لم
يستجدوا فيه شيئاً ، واكتفـوا
في كل حــال منه بالسفسـاف
قل
للذين تقيــدوا بشروطــه ماذا
التوقف عند " رسم " عـافي
غرسوه
غرساً مثمراً ، لكن جرت غير
الزمان فعــاد كالصفصاف
هل
بين شرط الواقفين ، وبين ما
نفع العمـوم ، تناقض وتنــافي
أزيد
أن يقفو الزمــان أمـورنا
وأمورنا ، هي للزمـان قــوافي
هلا
جعلن مدارســا فيــاضة من كل
علم بالـزلال الصــافي
ينتابها
أبناؤكــم كي يأخــذوا من كل
فــن بالنصيب الــوافي
فيفيض
فيض العـلم حتى يرتوي منه
بنو الأمصــار والأريـاف
إن
لم يكن شرف البـلاد محصنا
بالعلم ، كان مهــدد الأطـراف
وإذا
النفوس تسافلت من جهلـها لم
يعلــها شمم على الآنــاف
هذي
الخزانة أنشئت فبنــاؤهـا
للأمر فيـه تــدارك وتــلاف
34-
وقف جميع الأراضي المفتوحة في عصر عمر وقفاً على الدولة والأجيال القادمة .
وفي
نظري أن أعظم وقف في تاريخ البشرية كلها هو ما قام به عمر من وقف الأراضي المفتوحة
عنوة في العراق ، والشام ، وغيرهما وقفاً على مصالح الدولة والأجيال اللاحقة.
فقد
اتفق المؤرخون
على أن سيدنا عمر ( رضي الله عنه ) لما فتح العراق ، والشام ، والبلاد الأخرى لم
يوزع الأراضي المفتوحة على الفاتحين كما هو الحال لبعض الأراضي المفتوحة في عصر
الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما أبقاها بأيدي أصحابها ، وجعل ريعها وما ينتج منها
من الخراج لصالح الدولة والأجيال اللاحقة ، وهذا محل إجماع واتفاق بين الفقهاء ،
وإنما الخلاف في التكييف ، بل إن الإمام مالكاً وأصحابه يذهبون إلى أن على الإمام
ـ بعد عمر ـ إذا فتح أرضاً أن يقفها على المسلمين
كما فعل ( رضي الله عنه ) في أرض سواد العراق ، وقال أبو حنيفة والكوفيون يتخير
الإمام بحسب المصلحة في قسمتها ، أو تركها في أيدي من كانت لهم بخراج يوظفه عليها
وتصير ملكاً لهم كأرض الصلح .. "
.
وذكر
ابن عابدين أن أرض سواد العراق ، وأرض مصر والشام تبقى بأيدي أصحابها ، ولكن
الخراج يكون للدولة ، وهذا يعني أنها مملوكة ـ ملكية المنفعة والتصرف لأهلها ، حيث
قال :" وهذا ـ أي ثبوت الملكية لهم ـ على مذهبنا ظاهر ، وكذا عند من يقول :
إنها وقف على المسلمين ، فقد قال الإمام السبكي : إن الواقع في البلاد الشامية
والمصرية : أنها في أيدي المسلمين فلا شك أنها لهم إما وقفاً وهو الأظهر من جهة
عمر رضي الله عنه وإما ملكاً وإن لم يعرف من انتقل منه إلى بيت المال .. "
.
يقول
القرطبي :" وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة : أن عمر أبقى سواد
العراق ومصر ، وما ظهر عليه من الغنائم ، لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحشوة
والذراري ، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم
... وأنه تأول في ذلك قول الله تعالى : (( للفقراء والمهاجرين )) إلى قوله تعالى
(( والذين جاؤوا من بعدهم ... ))
.
ويقول
ابن عاشور :" وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى (( والذين جاؤوا من
بعدهم )) دليلاً على إبقاء أرض سواد
العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق ، وجعلها خراجاً لأهلها قصداً لدوام
الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين "
.
عند الشافعية أن سيدنا عمر عندما فتح سواد
العراق ، والشام ، ومصر اتفق مع الفاتحين على جعلها وقفاً
.
والخلاصة
أن الفقهاء اختلفوا في الأراضي المفتوحة عنوة ( سواد العراق ، والشام ومصر ) هل هي وقف أم لا ؟ على رأيين أساسيين :
الرأي
الأول لجمهور الفقهاء حيث ذهبوا إلى أنها أراض وقفية ، فلا يجوز بيع
رقبتها ، ولا رهنها ، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم على رأيين :
1
ـ فذهب المالكية في المشهور عنهم ، والحنابلة في رواية ، والأوزاعي والإمامية
إلى أنها تصبح وقفاً بالفتح نفسه من غير حاجة إلى صيغة وقف ، حيث تدل على ذلك آيات
سورة الحشر وهي (( وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم ... إلى رؤوف رحيم ))
.
وجه
الاستدلال بها أن الله تعالى ذكر في هذه الآيات حكم الفيء الذي يتم دون حرب ولا
قتال حيث يكون تحت تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم فينفق منه نفقته ، ويجعل الباقي
في الكراع والسلاح وإعداد القوة ، والمصالح العامة للأمة ، حيث بين الله بأن هذا
الفيء الذي جاء عن طريق الصلح مع بني النضير ليس للمقاتلين حق فيه ، ولذلك قسّم
النبي صلى الله عليه وسلم أراضيهم ونخيلهم بين المهاجرين ، لأنهم كانوا محتاجين ،
ولم يعط للأنصار شيئاً إلا ثلاثة فقراء منهم .
ثم
بعدما ذكر القرآن الكريم هذا الحكم تحدث عن فيء آخر يتم بغير الصلح ( أي الغنيمة )
، فهذا النوع يكون مآله لهؤلاء الذين ذكرتهم الآيات اللاحقة وهي (( لله وللرسول (
أي الدولة والحق العام ) ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل )) أي لهم
الخمس وبالتالي فيكون الباقي للمهاجرين ، والأنصار ، والذين جاؤوا من بعدهم ، حيث
دلت الآيات بوضوح أن الأراضي المفتوحـة يجب أن يستفيد منـها جميع هؤلاء ( في
الجملة ) وهذا لا يتحقق إذا وزعت على المقاتلين فقط ، وإنما تكون وقفاً يستفيد من
ريعها وثمارها وخراجها الجميع إلى يوم القيامة .
ولكن
هذا الاستدلال يستكمل بأن هذه الآيات في سورة الحشر خاصة بالأراضي وما فيها من
نخيل وزروع وثمار ، وأن آيات الأنفال ( الغنائم ) في سورة الأنفال بما عدا الأرض
وما عليها ، وبذلك انتظمت الحالات الثلاث وفقاً للآيات الثلاث .
ويرد
إشكال آخر ، وهو أن الفيء خاص بما يؤخذ من غير قتال ، والغنيمة خاص بما يؤخذ بقتال:
للجواب
عن ذلك نقول : إن أهل اللغة متفقون على أن الفيء يطلق على الغنيمة أرضاً أو أنه
أعم منها فإن قيّد بالقتال فهو غنيمة كما رأينا في آيات سورة الحشر ، حيث قيدت
الآية ( 6) بعدم القتال (( وما أفاء الله على رسوله منهم ـ أي من بني النضير ـ فما
أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب .. )) أي لم تحصلوا عليه بالقتال ، وإنما بالصلح حيث
قذف الله في قلوب بني النضير الخوف فضاقت عليهم الأرض فتنازلوا عن جميع أموالهم .
في
حين نرى الآية الثانية من السورة نفسها غير مقيدة بالصلح ، حيث قال تعالى : (( ما
أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ... )) حيث يظهر منها أنها تتحدث عن جميع
الغنايم التي تحصل من أهل القرى بالحرب والقتال ، لأنها في بيان حكم جديد ، ولذلك
صيغت الآية بصيغة القطع دون الوصل بالعطف .
وبناءً
على هذا الرأي والتفسير فهناك ثلاثة أنواع من الغنايم ، والفيئ وهي :
1-
غنايم منقولة ( غير
العقارات ) حصلت بالحرب فإن حكمها قد ذكرته آيات سورة الأنفال .
2-
وغنايم غير منقولة (
الأراضي والأشجار ) فهذه تصبح وقفاً لمصالح الأمة .
3- وفيء
تحقق بدون قتال فهذا يتصرف فيه الإمام حسب المصالح العامة ، وأما سهم الرسول فهو
خاص به فقط ، فلا يقاس غيره عليه .
وقد
ذكر القاضي ابن العربي أن الآية الأولى (( وما أفاء الله على رسوله منهم ... ))
لرسول الله خاصة ، أي فإن الله تعالى خصَّ هذه الأموال التي جاءت من بني النضير
لرسوله صلى الله عليه وسلم ولذلك لما جاء العباس وعلي إلى عمر يطلبان بما كان في
يد النبي صلى الله عليه وسلم من المال ، وذلك بحضرة عثمان وعبد الرحمن بن عوف ،
والزبير ، وسعد ، قال لهم عمر : أحدثكم عن هذا الأمر أن الله خصَّ رسوله صلى الله
عليه وسلم من هذا الفيء بسهم لم يعطه أحداً غيره وقرأ (( وما أفاء الله على رسوله
منهم فما أوجفتم عليه من خيل ... )) فكانت هذه خالصة لرسوله صلى الله عليه وسلم
وأن الله اختارها ، والله ما أحتازها دونكم ولا أستأثر بها عليكم ... "
.
يقول
ابن العربي :" واختلف الناس هل هي ـ آيات سورة الحشر ـ ثلاثة معان ، أو
معنيان ، ولا إشكال في أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات ، أما الآية الأولى فهي قوله
(( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر )) ثم قال (( وما
أفاء الله على رسوله منهم .. )) ولذلك قال عمر إنها كانت خالصة لرسول الله ...
الآية السادسة قوله تعالى (( ما أفاء الله على رسوله .. )) هذا الكلام مبتدأ غير
الأول لمستحق غير الأول )
أي تحمل على الفيئ بمعنى الغنيمة ، ولكن في الأراضي .
وهناك
تفاصيل كثيرة حول توجيه هذه الآيات لا يسع الخوض فيها
.
2
ـ وذهب الشافعية ، والمالكية في قول ، والظاهرية ، والحنابلة ، إلى أن هذه الأراضي
آلت إلى الوقف ، حيث طيَّب عمر رضي الله عنه نفوسهم فوافقوا على جعلها وقفاً ،
وهناك تفاصيل داخل هذه المذاهب لا تسمح طبيعة البحث بالخوض فيها
.
وأياً
كان فإن النتيجة واحدة وهي أن هذه الأراضي المفتوحة هي وقف للأمة تشرف عليها
الدولة ، وتنفق من ريعها للصالح العام ، وهذا هو الرأي الراجح الظاهر الذي ذكرنا
بعض أدلته ولا يسع المجال للخوض في ذكر بقية الأدلة
.
الرأي
الثاني للحنفية : حيث يذهبون إلى أن هذه الأراضي بمثابة الوقف وليست وقفاً ،
ولذلك يحق لأصحاب هذه الأراضي بيعها ورهنها ، ولكن يبقى الخراج مصاحباً لها ،
وتنتقل مع الأرض إلى المالك الجديد ، يقول الكاساني :" ويجوز بيع أراضي
الخراج ... والمراد من الخراج أرض سواد العراق التي فتحها سيدنا عمر رضي الله عنه
، لأنه منَّ عليهم ، وأقرهم على أراضيهم ، فكانت مبقاة على ملكهم فجاز لهم بيعها
.. "
وقال ابن عابدين :" وأرض السواد ـ أي سواد العراق .. وكذا كل ما فتح عنوة
وأقر أهله عليه ، أو صولحوا ، ووضع الخراج على أراضيهم فهي مملوكة لأهلها ...
ويجوز بيعهم لها ـ أي الأراضي الشامية والمصرية ـ وتصرفهم فيها بالرهن ، والهبة ،
لأن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة له أن يقر أهلها عليها ، ويضع عليها الخراج ..
فتبقى الأرض مملوكة لأهلها "
.
والذي
يهمنا هنا أن جماهير الفقهاء متفقون على أن تلك الأراضي المفتوحة وقف وقفها عمر
رضي الله عنه لصالح الأمة وأجيالها اللاحقة ، وهذا من فقه عمر وبصيرته النافذة
وبعد نظره واجتهاداته الإستراتيجية ( رضي الله عنه ) .
والحق
أن هذا الوقف هو أعظم وقف استراتيجي على مرِّ التأريخ ، ليس من حيث الحجم
الكبير فحسب ، وإنما من حيث ربطه بالأجيال اللاحقة لتوفير الحياة الكريمة لهم ،
ومن حيث إشراكهم في خيرات الحاضر ، وعدم حصرها في الحاضرين الذين هم اكتسبوها
وتعبوا لأجلها ، بل سالت دماؤهم حتى تحققت تلك النتائج من النصر والفتح ، ومع ذلك
يضعها عمر لصالح الأمة إلى يوم القيامة .
فمثل
هذا التفكير الاستراتيجي هو الذي يجب أن يسيطر على المسؤولين في عالمنا الإسلامي
ولا سيما بشأن البترول والغاز والمعادن الأخرى ، بأن تضع للأجيال اللاحقة صندوقاً
لها ، وأن لا نسرف في صرف ما لدينا من طاقة ومعادن خلال عصرنا الحاضر.
فنظرة
متواضعة في هذه الأنواع السابقة تبين لنا كم كانت الأوقاف ضخمة ومؤثرة وكم كانت
لها أدوارها العظيمة ، كما أنها تظهر لنا أن مؤسسات الوقف هي التي تبنت حضارتنا
الإسلامية ، وصح قولنا بأن حضارتنا هي هبة الوقف ـ بعد فضل الله ـ .
كما
يتبين لنا أن هذه المؤسسات الكثيرة المتنوعة هي فعلاً مؤسسات المجتمع المدني /
الأهلي ، سواء سميناها بهذا الاسم أو لم نسم فالعبرة بالمقاصد والمآلات وليست
بالألفاظ والمصطلحات .
آثار
هذه الأوقاف :
أ-
كان لكل وقف مما ذكرنا ، ومما لم نذكره آثار كبيرة للنهوض بالأمة وتحقيق رقيها
وحضارتها ، فالأوقاف الخاصة بالمدارس دفعت بالتعليم شأواً بعيداً ، وساهم في إرساء
دعائم التعليم ، وإشاعة ثقافة واسعة في المجتمع الإسلامي وتوفير مصادر متنوعة
للتعلم ، وتمكين غير القادرين من المبدعين في التعلم والوصول إلى أرقى مراتب العلم
والثقافة في مختلف العلوم .
ب-
وكذلك كان للوقف دور عظيم في نشر الدعوة على مر تأريخنا القديم والمعاصر ، حيث
كانت هذه الأوقاف تكفل لعدد كبير من الدعاة والمصلحين ورواد التجديد ، وحراس
العقيدة العيشَ الكريمَ والاستقرارَ النفسيَّ ، وهدوءَ البال ، وراحةَ الضمير
ليؤدوا رسالتهم الدعوية على الوجه المطلوب دون الخوف من قطع الرزق ، أو المرتب من
الدولة ، بعيدين عن التبعية ، وضغط الإدارة الرسمية
، وهم (( يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا
))
.
ج-
ولم تكن آثار الوقف محصورة في نشر الدعوة ، والتعليم بل كانت له آثاره العظيمة في
التنمية الشاملة للأمة والمجتمع ، وبناء الحياة الاجتماعية المستقرة من خلال ضمان
العيش الكريم لفئات كثيرة وكبيرة من المجتمع كما أشرنا إلى أنواع الموقف عليهم ،
حيث شملت معظم البنية التحتية للتنمية الشاملة ومعظم الأنشطة الاجتماعية ، حيث
يمكن تلخيصها فيما يأتي :
1-
أوقاف على التكافل الاجتماعي ، وهذه تشمل الفقراء والغرماء ، والأيتام والأرامل ،
و ....
2-
أوقاف على البنية التحتية الاقتصادية من الجسور والقناطر والطرق ، ومشاريع المياه
، وبناء المساجد ، والمدارس ، والمستشفيات ونحوها .
3-
أوقاف خاصة بكل ما يتعلق بالعلم والكتب ، والتعليم والثقافة والحضارة .
4-
أوقاف على المجالات الدينية ، والجهادية ، والتربوية ، والدعوية وأماكنها من حيث
المساجد ، ومراكز الدعوة والتكايا ، والخانقاهات ، ونحوها .
5-
أوقاف للجوانب الإنسانية ، والرحمة الإسلامية بالحيوانات .
6-
المشروعات الاجتماعية ، والصحية
فهذه الأوقاف العظيمة لها دور عظيم في الإنتاج والتشغيل ، والقضاء على البطالة ،
والتضخم ، والتنمية الزراعية ، والصناعية والتجارية ، ولها دور أعظم في تنمية
الموارد البشرية ، وتنمية الإنسان بصورة مباشرة ، أو غير مباشرة ، وأما الأثر
المباشر للوقف في التشغيل فيكمن في تشغيل عشرات الآلاف ، بل مئات الآلاف ، بل
الأكثر في هذه المؤسسات التعليمية ، والصحية ، والاجتماعية لتشغيلها وأداء دورها
بالإضافة إلى تشغيل الأئمة والعلماء والدعاة ، بل تكونت لدى حضارتنا الإسلامية
مجموعة من الوظائف الجديدة لم تكن موجودة مثل القيِّم ، والناظر ، والمدرس ،
والمعيد ، والفقيه ، ونائب الوقف ، ووكيل الناظر ، والمباشر ، والشاهد ، والكاتب ،
والجابي ، والصراف ، والشآد ، وأمين المخزن ، والسباك ، والنجار ، والمرماني وغير
ذلك بالإضافة إلى وظائف الأمن والحراسة للأوقاف
.
د-
وأما الأثر غير المباشر فيتم من خلال تزويد الوقف المجتمع بالمتخصصين والمؤهلين
والمدربين من خلال ، بالإضافة إلى أثره في التشغيل عن طريق الاستثمار
.
وكذلك
فإن للوقف دوراً تشغيلياً عظيماً في تنشيط المصانع من خلال الوقف على الجهاد ، حيث
يحتاج المجاهدون إلى الأسلحة ، وكذلك له دور في الزراعة من خلال أراضي الوقف
الزراعية الكثيرة حيث تحتاج إلى التشغيل والتطوير ، وكذلك دوره في التجارة من خلال
توفير الوقف للخانات وغير ذلك
.
هـ-
دور الوقف الاقتصادي :
إذا
اعتبرنا الأراضي المفتوحة وقفاً ـ وهو رأي جماهير الفقهاء وهو الذي تبنيناه ـ
وأضفنا إليها بقية الموقوفات فإن الوقف يمثل نسبة كبيرة جداً من الموارد المالية
للأمة الإسلامية ولا سيما في العصور المزدهرة للحضارة الإسلامية ، حيث أستطيع
القول بأن الموارد الوقفية ( أصلاً وغلة ومنفعة ) كانت تمثل بين 60 ـ 75 % من
الموارد .
ويمكن
الاستئناس بما ذكره بعض الباحثين من أن الموارد الاقتصادية قد بلغت في أواخر العصر
العثماني بالمجتمع العربي نسبة تراوحت بن 30 إلى 50 % من الأراضي الزراعية
والعقارات المبنية
وهذه النسبة لا تدخل فيها ما ذكرناه من الأراضي المفتوحة الموقوفة.
وكانت
الكارثة الكبرى على الأوقاف تكمن فيما خطط لها الاستعمار ونفذه حول المحاولة
الجادة لإلغاء الأوقاف ، أو دورها ، ثم فيما فعلته الأنظمة الاشتراكية الشيوعية في
محاولة طمس معالم الأوقاف بإلغاء الوقف الذري في بعض البلاد ، وتأميم الأوقاف ،
وإخضـاع كثير من الأراضي الوقفية لقـانون الإصلاح الزراعي
.
كان
للوقف دوره في الأنشطة الأساسية الخمسة للاقتصاد ، وهي الإنتاج ، والاستهلاك ،
والتبادل والتداول ، والتوزيع ، وإعادة التوزيع ، ولذلك حققت الأوقاف في ماضينا
الزاهر التنمية الشاملة للمجتمع ، وتحضير المجتمعات الريفية والبدوية ، وفي
مشروعات البنية التحتية ، بل حققت الحضارة ـ كما سبق ـ .
كيفية
ربط الوقف بالاقتصاد ـ كما كان في الماضي ـ :
كانت
الأوقاف في ظل حضارتنا الإسلامية مرتبطة بالاقتصاد وأنشطته ، فكانت أداة فعالة
للتنمية الاقتصادية ، وللتفعيل الحضاري وللإبداع العلمي ، ووسيلة للتكافل ،
والتوزيع العادل ، وتحقيق النمو الاقتصادي والحضاري والإنساني كما سبق .
ومن
جانب آخر فإن الوقف في حد ذاته تحويل أموال من الاستهلاك إلى أصول رأسمالية
إنتاجية ، تنتج المنافع التي تستهلك جماعياً أو فردياً ، فالوقف إذن ادخار
واستثمار معاً
.
فكيف
يعاد هذا الدور إلى الوقف ؟ وكيف يربط الوقف بالدورة الاقتصادية الناجحة وبالدورة
الاجتماعية التنموية ؟
إن
ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة من الجميع ، من العلماء والباحثين ، ومن الدولة ،
والجامعات ، بل من المجتمع كله ، وذلك وفق ما يأتي :
أ
ـ إعادة الموقوفات التي أخذت ظلماً وزوراً إلى مؤسسة الوقف.
ب
ـ وضع خطة إستراتيجية لتطوير الأوقاف كمّاً وكيفاً ، واسترجاعاً لما ضاع ،
واستنهاضاً للأمة ، ملهمة من الماضي الزاهر ومرتبطة بالحاضر المتطور ، ومتطلعة إلى
المستقبل الواعد والعد المزدهر .
ج
ـ إعادة الاعتبار إلى الوقف ، واعتباره نظاماً حضارياً دفع الأمة إلى الأمام ،
وحقق لها حضارتها المزدهرة ، حيث نظر إليه في ظل الاستعمار والأنظمة الشيوعية كأنه
نظام تسول وتعطيل للثروة ، وذلك ، فلا بد من دحض هذه الشبهات ، وإظهار الوجه
الجميل المستبشر بكل خير للوقف .
د
ـ التعمق في فهم أسس تفعيل الوقف ليكون له مردود اقتصادي يهدم جدران التخلف
المعنوي ويحطم سور الجهل والفقر والبطالة
.
هـ
ـ وضع خطة أخرى أيضاً للاستثمار الناجح والاستثمار الاجتماعي والإنساني لأموال
الوقف تقوم على :
1
ـ ضوابط التقويم لأساليب استثمار الوقف تقويماً علمياً يقوم على المعايير الآتية :
أ
ـ المعيار الشرعي والأخلاقي ، حيث يجب الالتزام به في الاستثمار وغيره .
ب
ـ المعيار المادي من حيث تحقيق الأرباح المادية من الاستثمار ، وهذا هو ما أشار
إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها
الزكاة "
حيث يدل هذا الحديث الشريف على أن التجارة يجب أن تؤدي إلى الحفاظ على رأس المال
مع تحقيق أرباح تكفي للزكاة المفروضة على المال ( في غير الأوقاف العامة ) .
بل
إن القرآن الكريم بين بأن الاستثمار في أمـوال الضعفاء ( ويقاس عليهم الوقف )
وينبغي أن يكون استثماراً ناجحاً مغطياً لنفقاتهم ، ومحققاً الأرباح التي تعطى منها
النفقة بالكامل من المعيشة والكسوة ونحوهما ، حيث قال تعالى : (( ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً
معروفاً ))
حيث عبرت هذه الآية بلفظ ( فيها ) أي في الناتج من رأس المال ، ولم تقل ( منها )
من رأس المال ، مما يفهم بوضوح ضرورة تحقيق الربح
.
والخلاصة
يجب على الناظر ، أو الدولة ، أو القضاء أن لا يغفل عن هذا الجانب المادي الربحي
بقدر الإمكان مع ملاحظة الجوانب الإنسانية والاجتماعية ، فمثلاً لو استثمرت أموال
الوقف في قضايا اجتماعية تكون الأولوية لتحقيق هذا الهدف .
ج
ـ المعيار الاجتماعي الإنساني ، أي رعاية الجوانب الاجتماعية والإنسانية ، وهذا
يعني أن المؤسسة الوقفية إذا دخلت في استثمار يتعلق بالجانب الاجتماعي فينبغي أن
تكون الأولوية لتحقيق الأهداف الإنسانية والاجتماعية أكثر من الأرباح المادية ،
فمثلاً لو دخلت في مشروع جامعة ، أو مستشفى ، أو نحوهما ، فتكون الأولوية القصوى
للنجاح في هذين الجانبين ـ مثلاً ـ مع وجوب رعاية حماية رأس المال ( الأصل ) إذا
كان الاستثمار منه ، أما إذا كان الاستثمار من الربح فلا مانع من نقصانه ما دامت
الأهداف الاجتماعية قد تحققت على شكلها المنشود .
المعيار
الجامع في الاستثمار :
إذا
نظرنا إلى الأدلة المعتبرة في الوقف لتوصلنا إلى أن المعيار الجامع في الوقف كله
هو معيار المصلحة
، ولكن مع توسيع دائرة المصلحة لتشمل المصلحة الاجتماعية ، والمصلحة الإنسانية ،
والمصلحة التنموية ، والمصلحة التكافلية ، بالإضافة إلى المصالح المادية .
ويأتي
هنا دور فقه الأولويات ، وفقه الموازنات مع رعاية شروط الواقف ، مع دور التخطيط ،
والابتعاد عن العشوائية ، والفساد الإداري والمالي ، مع توفير الكوادر البشرية
المخلصة والمتخصصة ، والتوفيق في الأدوات الاستثمارية الناجحة الآمنة إلى حد كبير
، بالإضافة إلى الاستفادة من متطلبات العصر من التنوع الاستثماري ، والكفاءة
الاستثمارية ، والحوكمة والشفافية ، والتجديد والإبداع ، ورعاية متطلبات الهيكلة
التنظيمية المؤسسية لإدارة الوقف
.
و-
أثر الوقف على استقلالية الدعوة والتعليم ، والدعاة والعلماء :
كان من أهم آثار الأوقاف التي ذكرنا بعضها
استقلال الدعوة ، ومؤسسات التعليم ، والدعاة والعلماء والأئمة ، حيث كانت لهم
مواردهم المالية المستقلة دون الحاجة إلى الحكومة وموظفيها .
وكان لهذا الاستقلال المالي دوره العظيم في
استقلال القرارات والدعوة ، والتوجه ، بل في تطوير المؤسسات ، وازدهار الحضارة
الإسلامية .
ولذلك نرى من الضروري أن يكون للدعوة والتعليم
ومؤسساتهما أوقاف كافية خاصة بهما لتكون لهما استقلاليتهما ، ونرى أثر ذلك سلباً
وايجاباً ـ مثلاً ـ على جامعة الأزهر الشريف حينما كانت مستقلة لها مواردها الخاصة
حيث كانت تقوم بدور عظيم في خدمة الدعوة والتعليم ... .
([2]) ويراجع للمزيد : د .
مصطفى السباعي : من روائع حضارتنا ، والمصادر والمراجع السابقة أيضاً .
([3]) تاريخ الطبري ، ويراجع :
أسنى المطالب ، ط. دار الكتب العلمية / بيروت 2001 م ( 8/513 ) .
([4]) شرح الزرقاني على الموطأ
( 3/52 ) ، والذخيرة ( 2/495 ) .
([5]) بدائع الصنائع ( 5/207 )
ط. دار الفكر اللبناني / بيروت ( 996 1) ، ويراجع : شرح مسلم للنووي ، ط.
التوفيقية بالقاهرة 1995 ( 10/172 ) والمبسوط ( 10/2 ) ودرر الحكام ( 2/1 )
والمحيط البرهاني ( 2/342 ) .
([6]) حاشية ابن عابدين ط. دار
الفكر / بيروت ( 4/356 ) .
([7]) الآيات من سورة الحشر ،
ويراجع قول القرطبي في تفسيره ( 18/20 ) .
([8]) التحبير والتنوير ط. دار
سحنون / تونس ( 29/213 ) .
([9]) المجموع شرح المهذب ط.
دار الفكر / بيروت ( 21/285 ) .
([10]) يراجع : شرح الزرقاني على
الموطأ ( 3/52 ) والمجموع شرح المهذب للنووي ( 21/285 ) وفتح العزيز ( 9/3) ومغني
المحتاج ( 4/275 ) وروضة الطالبين ( 9/87
) ، والمغني لابن قدامة ( 6/37 ) والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص ( 147 ) وشرائـع
الإسلام ( 1/152 ) ، ومعنى كونها وقفاً : أن هذه الأراضي لا تباع رقبتها ولكن يجوز
بيع منافعها ( التأجير ) وبيع ثمارها وأشجارها ، وكذلك الدور التي تبنى عليها ،
لأنه تم ذلك على مر العصور دون نكير : مغني المحتاج ( 4/275 ) والمصادر السابقة ،
ويراجع لمزيد من التفصيل والتأصيل : أ .د . عبد السلام العبادي : الملكية في
الشريعة الإسلامية ، ط. مكتبة الأقصى / الأردن ( 1/280 ـ 306 ) .
([11]) سورة الحشر : الآيات ( 6
ـ 10 ) .
([12]) أحكام القرآن لابن العربي
( 4/1770 ــ 1771 ) .
([13]) المصدر السابق : ( 4/1772
ــ 1773 ) .
([14]) يراجع للمزيد : تفسير
الطبري ( 28/30 ) وتفسير القرطبي ( 18/19) وتفسير ابن كثير ( 8/92 ) وأضواء البيان
( 2/440 ) وتفسير الشوكاني ( 5/154 ) وتفسير البحر المحيط ( 3/102 ) وتفسير الرازي
( 29/508 ) وتفسير الألوسي ( 28/16 ) .
([15]) يراجع : المجموع للنووي (
21/285 ) وفتح العزيز ( 9/3 ) حيث قال :" سواد العراق وقف على المسلمين على
الأظهر " والمصادر السابقة للحنابلة وغيرهم .
([16]) يراجع : أ.د. عبد السلام
العبادي : المرجع السابق ( 1/278 ، وما بعدها ) .
([17]) بدائع الصنائع ( 5/207 )
ويراجع البحر الرائق ( 5/112 ) .
([18]) حاشية ابن عابدين ( 4/356
) .
([19]) محمد بن عبد العزيز بن
عبد الله : الوقف والفكر الإسلامي ( 1/29 ) إصدار وزارة الأوقاف بالمغرب / الرباط
1416 هـ .
([20]) سورة الأحزاب : الآية 39
.
([21]) يراجع : الشيخ صالح بن
عبد الله كامل : دور الوقف في النمو الاقتصادي ، بحث مقدم إلى ندوة : نحو دور
تنموي للوقف المنعقدة بالكويت في الفترة 1 ـ 3 /5/1993 م و أ .د شوقي دنيا : أثر
الوقف في إنجاز التنمية الشاملة ، بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ،
السنة 6 عدد 24 ، الرياض ص 142 ، وبقية بحوث هذه الندوة .
([22]) عبد العزيز عبده : أثر
الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية .. ، رسالة ماجستير بكلية الشريعة بجامعة
أم القرى ص 126 ـ 13 ، و د . عبد اللطيف بن عبد الله : أثر الوقف في التنمية
الاقتصادية ، بحث مقدم إلى مؤتمر الأوقاف الأول بجامعة أم القرى ص 113 .
([24]) يراجع المراجع السابقة ،
وبخاصة بحوث ندوة : نحو دور تنموي للوقف ، المشار إليها سابقاً .
([25]) المستشار إبراهيم البيومي
غانم : المرجع السابق ص ( 17 ) ، معتمداً على عدد من البحوث المقدمة المنشورة في
المرجع نفسه .
([26]) نظام الوقف والمجتمع
المدني ، نشر مركز دراسات الوحدة العربية ، وأوقاف الكويت ص ( 366 وما بعدها ) .
([27]) د. منذر قحف : التكوين
الاقتصادي للوقف ، بحث منشور في : نظام الوقف المشار إليه سابقاً ص ( 413 ) .
([28]) جمال برزنجي : الوقف
وأثره في تنمية المجتمع ، ورقة مقدمة إلى ندوة : نحو دور تنموي للوقف ، الكويت ،
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1993 ص ( 134 ) ، ود. محمد محمد شتا أبو سعد :
التكوين الاقتصادي للوقف في بلدان وادي النيل ، بحث منشور في : نظام الوقف
والمجتمع المدني ، نشر مركز دراسات الوحدة العربية مع وزارة الأوقاف الكويتية ،
2003 / بيروت .
([29]) رواه بهذا اللفظ الطبراني
في الأوسط عن أنس بن مالك ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ، ط. الريان 1407هـ (
3/67) وقال نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي : ( إن إسناده صحيح ) ورواه البيهقي في
السنن الكبرى (4/107) بروايات مختلفة .
([30]) سورة النساء : الآية ( 5
) .
([31]) يراجع لمزيد من التفصيل :
حكم الاستثمار في الأسهم ط. قطر للدكتور : علي القره داغي .
([32]) العلامة الشيخ بن بيه :
أثر المصلحة في الوقف ، بحث منشور في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة / الرياض / ،
العدد ( 47 ) ، ص ( 6 ) .